التقوى والحرص على ما ينفع
الحمد لله ﴿ الذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾[1]، أحمده سبحانه على حسن خلقه وإتقان صنعه وسعة علمه وبالغ حكمته وعظيم قدرته ونفوذ مشيئته فهو العلي القدير. وأشكره تعالى على نعم مسابغة متواصلة تترى في الصباح والبكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في خلقه وملكه وتدبيره وفعله واسمه ووصفه وإلهيته وعبادته ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير. وأشهد أن محمدً - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير - صلى الله عليه وسلم - عليه وعلى آله وأصحابه أولي الهمم العالية والعزائم الماضية والسبق إلى كل خير.
أما بعد:
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والحرص على ما ينفع من أمر الدنيا والأخرى مع الاستعانة بالله والتسليم لله فيما قدره وقضاه والحذر من الاعتراض على قدر الله إذا فات شيء مما يسعى له المرء ويتمناه، أو اليأس من روح الله إذا أبطأ المطلوب أو عز المرغوب، يقول الحق تبارك وتعالى ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[2]، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له".
أيها المسلمون:
أما تقوى الله فإنها التحرز بطاعة الله تعالى عن معصيته طلباً لمرضاته وثوابه واتقاءً لغضبه وعقابه، وهي نبض القرآن خير لباس، والتي وعد الله تعالى أهلها في آي من التنـزيل بأن يعلمهم الله، ويكف عنهم كيد الأعداء، والنجاة من النار ووراثة الجنة دار الأخيار وأن يجعل لهم فرقاناً ويكفر عنهم السيئات فضلاً واحتسابا، وأن يجعل لهم مخرجا من كل ضيق، وأن يهديهم لأقوم الطريق، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون ويؤمنهم مما يخافون.
ويجعل لهم من أمرهم يسرا ويعظم لهم أجرا وغير ذلك من الوعود الكريمة والهباة الحسنة الجزيلة العظيمة.
معشر المسلمين:
وأما الحرص على ما ينفع من أمور الدنيا والأخرى فإنه مقتضى الفطرة السليمة ومقصد الشريعة الربانية الحكيمة، ومطلب العقل الصحيح، ووسيلة عمارة الدنيا، وبلوغ الدرجات العالية "مع الاحتساب" في الأخرى، وكم في صريح الكتاب وصحيح السنة والمأثور عن السلف الصالح من الأمة من النصوص الخاصة على صالح العمل، والمبشرة لأهله بواسع الفضل، وجزيل المثوبة من الله عز وجل قال تعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[3].
عباد الله:
هلا تأملتم تخفيف الله تعالى على الصالحين من عباده في نوافل العبادات، من أجل عملهم في مهام الأمة ومصالحها العامة من التجارات، والجهاد في سبيل الله، لهداية البريات وعذره سبحانه للمرضى العاجزين عن هذه المهمات، وحضه تعالى للجميع في سائر الأحوال على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وحضه على الإحسان إلى ذوي الحاجات، وعده لذلك قرضاً حسناً يعطي الله أهله عظيم الأجور، ويغفر له ويرحمهم لرحمتهم مستحق الرحمة طمعاً في رحمة رب الأرض والسموات، يقول الحق تبارك وتعالى ﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20].
أيها المؤمنون:
ولقد كان أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مع علو مقامهم وشريف وظائفهم في طليعة من اشتغل بشريف المهن، طلباً لطيب الكسب والحلال من الرزق الحسن، فكان نبيا الله نوح وزكريا عليهما الصلاة والسلام ممن يحسن النجارة وكان يوسف عليه السلام يحسن تدبير الاقتصاد والتجارة، وكان داوود يحسن الصناعة، وكان إدريس عليه السلام خياطا ًعليهم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليهم وسلم جميعا يحسن رعية الغنم ولما تعاطى التجارة ربح وغنم، وكم في المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حث الأمة على أنواع من أسباب الرزق، وحثها على الإحسان والتقوى والصدق ولقد عد - صلى الله عليه وسلم - طلب الرزق في هذه الأمور مع التقوى مما يعدل الجهاد في سبيل الله وأن الإنفاق على النفس والأهل من ذلك الكسب يعدل أو أفضل من النفقة في سبيل الله.
فتحلوا "عباد الله" بالتقوى تفلحوا واعملوا صالحاً تربحوا، واطلبوا الحلال من الكسب، والطيب من الرزق تستغنوا عن منة الخلق وتؤجروا، وأنفقوا من طيبات ما كسبتم تحسنوا دوماً ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾[4].